فصل: سؤال: لم قرن الفسوق بالرفث؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال التستري:

قوله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [197] قال: هو الرفيق إلى ذكر الله تعالى خوفًا، إذ لا زاد للمحب سوى محبوبه، وللعارف سوى معروفه. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَتَزَوَّدُواْ} أَمْرٌ باتخاذ الزاد. قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحجّ بيت الله ولا يطعمنا؛ فكانوا يبقون عالةً على الناس، فنُهوا عن ذلك، وأمِروا بالزاد. وقال عبد اللَّه بن الزبير: كان الناس يتّكل بعضهم على بعض بالزاد؛ فأمروا بالزاد. وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلةٌ عليها زاد، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مُزَينة، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: «يا عمر زوّد القوم» وقال بعض الناس: {تزوّدوا} الرفيق الصالح. وقال ابن عطية: وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية: وتزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة.
قلت: القول الأوّل أصح، فإن المراد الزاد المتَخَذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا؛ كما روى البخاريّ عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون: نحن المتوكلون؛ فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} وهذا نص فيما ذكرنا، وعليه أكثر المفسرين. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}:

.قال البقاعي:

ولما علم من ذلك أن التقدير: فأكثروا من الزاد مصحوبًا بالتقوى وكان الإنسان محل النقصان فكان الإكثار حاملًا له في العادة على الطغيان إلاّ من عصم الله وقليل ما هم قال سبحانه وتعالى مؤكدًا لأمر التقوى مشرفًا لها بالإضافة إلى نفسه الشريفة تنبيهًا على الإخلاص لأجل ذاته السنية لا بالنظر إلى شيء من رجاء أو خوف أو اتصاف بحج أو غيره عاطفًا على ما أرشد إلى تقديره السياق: {واتقون} أي في تقواكم بالتزود، وزاد الترغيب فيها بقوله: {يا أولي الألباب} أي العقول الصافية والأفهام النيرة الخالصة التي تجردت عن جميع العلائق الجسمانية فأبصرت جلالة التقوى فلزمتها. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {يا أُوْلِي الألباب} فاعلم أن لباب الشيء ولبه هو الخالص منه، ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال بعضهم: إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان، والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين، وقال آخرون: أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل، والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى: {إِنَّ في ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] فكذا هاهنا جعل اللب كناية عن العقل، فقوله: {يا أُوْلِي الألباب} معناه: يا أولي العقول، وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور، فإنه يقال لمن له غيرة وحمية: فلان له نفس، ولمن ليس له حمية: فلان لا نفس له فكذا ههنا.
فإن قيل: إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله: {يا أُوْلِي الألباب}.
قلنا: معناه: إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح، ولهذا قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس شيئا ** كنقص القادرين على التمام

ولهذا قال تعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] يعني الأنعام معذورة بسبب العجز، أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانوا أضل. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: لم لم يسمّ الله تعالى أشهر الحج في كتابه؟

الجواب: لم يسمّ الله تعالى أشهر الحج في كتابه؛ لأنها كانت معلومة عندهم. ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لأن بعض الشهر يتنزّل منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان. ولعله إنما رآه في ساعة منها؛ فالوقت يُذكر بعضه بكله، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أيامُ مِنىً ثلاثة» وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: رأيتك اليوم، وجئتك العام.
وقيل: لما كان الاثنان وما فوقهما جَمْعٌ قال أشهر؛ والله أعلم. اهـ.

.سؤال: لم وضع المظهر موضع المضمر؟

الجواب: الإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإنّ زيارة البيت المعظم والتقرّب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك. اهـ.

.سؤال: قال ابن عرفة: فإن قلت: لم أعيد لفظ الحجّ مظهرا، وهلا قيل: فمن فرضه فيهن؟

فأجاب عن ذلك بأنه لو قيل كذلك لكان فيه عود الضمير على اللفظ لا على المعنى مثل: عندي درهم ونصفه لأن الحج الأول مطلق يصدق بصورة فيتناول حج زيد وعمرو بالتعيين الواقع منهما وحجمها القابل لأن يفعلاه.
وقول الله جل جلاله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} مقيد بحج كل واحدٍ واحدٍ بعينه، والشخص المعين حجه مقيد لا مطلق، فلذلك أعيد لفظ الحج مظهرا فيتناول الفرض والتطوع. اهـ.

.سؤال: ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}؟

الجواب: الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة، أعني الشهوانية، والغضبية، والوهمية، فقوله: {فَلاَ رَفَثَ} إشارة إلى قهر الشهوانية، وقوله: {وَلاَ فُسُوقَ} إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب، وقوله: {وَلاَ جِدَالَ} إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شيء، فلما كان منشأ الشر محصورًا في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلًا عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور. اهـ.

.سؤال: لم قرن الفسوق بالرفث؟

الجواب: قرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج، ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في (المحلَّى): إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم. اهـ.

.سؤال: قيل لابن عرفة: ما الفرق بين جواز تقديم إحرام الحجّ على أشهر الحج ومنع تقديم إحرام الصلاة على وقتها؟

فقال: الإحرام قسمان منقطع ومستصحب، فالمنقطع كتكبيرة الإحرام والمستصحب النية، فالنية يصح تقديمها على الوقت لأنها لايزال حكمها منسحبا على المصلي في جميع أجزاء صلاته ولا يصح تقديم تكبيرة الإحرام لانقطاعها بالفراغ منها، ونظيره هنا السعي، لا يجوز تقديمه على أشهر الحج. وأما نية الإحرام والتوجه فهو مستصحب فيصح تقديمه على أشهر الحج. وفرقوا بين إحرام الصلاة وإحرام الحج بأنّ إحرام الصلاة متيسر لا مشقة فيه فامتنع تقديمه وأمر المقدم له بإعادته واعتقاد وجوبه بخلاف إحرام الحج. اهـ.

.سؤال: قوله: {وما تفعلوا خير يعلمه الله} لم عُقب به النهي عن المنهيات؟

الجواب: عُقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال: لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله: {فلا رفث} الخ. اهـ.

.سؤال: لم خصّ أولي الألباب بالخطاب مع أن الأمر يعم الكل؟

الجواب: خصّ أولي الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فائدة في تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية:

وفي تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإن المراد بالحج الأول زمان الحج وبالحج الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه، ولولا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل. اهـ.

.قال التستري:

الدنيا هي التي قطعت المنقطعين إلى الله عن الله عزَّ وجلَّ. وقال: عيش الملائكة في الطاعة، وعيش الأنبياء بالعلم وانتظار الفرج، وعيش الصديقين بالاقتداء، وعيش سائر الناس عالمًا كان أو جاهلًا، زاهدًا كان أو عابدًا في الأكل والشرب. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197)}.
ولنا أن نلحظ أن الحق قال في الصوم: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} ولم يذكر شهور الحج: شوالًا وذا القعدة وعشرة من ذي الحجة كما ذكر رمضان، لأن التشريع في رمضان خاص به فلابد أن يعين زمنه، لكن الحج كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، ويعلمون شهوره وكل شيء عنه؛ فالأمر غير محتاج لذكر أسماء الشهور الخاصة به، والشهور المعلومة هي: شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة وتنتهي بوقفة عرفات وبأيام منى، وشهر الحج لا يستغرق منه سوى عشرة أيام، ومع ذلك ضمه لشوال وذي القعدة، لأن بعض الشهر يدخل في الشهر. وكلمة {معلومات} تعطينا الحكمة من عدم ذكر أسماء شهور الحج، لأنها كانت معلومة عندهم.
{فمن فرض فيهن الحج} والفرق ليس من الإنسان إنما الفرض من الله الذي فرض الحج ركنا، وأنت إن ألزمت به نفسك نية وفعلًا، وشرعت ونويت الحج في الزمن المخصوص للحج تكون قد فرضت على نفسك الحج لهذا الموسم الذي تختاره وهو ملزم لك. وقوله سبحانه: {فرض} يدل على أنك تلتزم بالحج وإن كان مندوبًا. أي غير مفروض. {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. والرفث للسان، وللعين. وللجوارح الأخرى رفث، كلها تلتقي في عملية الجماع ومقدماته، ورفث اللسان في الحج أن يذكر مسألة الجماع، ورفث العين أن ينظر إلى المرأة بشهوة. فالرفث هو كل ما يأتي مقدمة للجماع، أو هو الجماع أو ما يتصل به بالكلمة أو بالنظرة، أو بالفعل.
والرفث وإن أبيح في غير الحج فهو محرم في الحج، أما الفسوق فهو محرم في الحج وفي غير الحج، فكأن الله ينبه إلى أنه وإن جاز أن يحدث من المسلم فسوق في غير الحج، فليس من الأدب أن يكون المسلم في بيت الله ويحدث ذلك الفسوق منه، إن الفسوق محرم في كل وقت، والحق ينبه هنا المسرف على نفسه، وعليه أن يتذكر إن كان قد فسق بعيدًا عن بيت الله فليستح أن يعصي الله في بيت الله؛ فالذاهب إلى بيت الله يبغي تكفير الذنوب عن نفسه، فهل يعقل أن يرتكب فيه ذنوبًا؟ لابد أن تستحي أيها المسلم وأنت في بيت الله، والعلم أن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي يحاسب فيه على مجرد الإرادة.
ويقول الله عز وجل: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} من الآية [25 سورة الحج].
إذن الرفث حلال في مواضع، لكنه يحرم في البيت الحرام، ولكن الفسوق ممتنع في كل وقت، وامتناعه أشد في البيت الحرام. والجدال وإن كان مباحا في غير الحج فلا يصح أن يوجد في الحج. ولنا أن نعرف أن مرتبة الجدال دون مرتبة الفسوق، ودون مرتبة العصيان، والرسول قال: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» رواه احمد والبخارى والنسائى وابن ماجه لم يقل: ولم يجادل إن بشرية الرسول تراعي ظروف المسلمين، فمن المحتمل أن يصدر جدال من الحاج نتيجة فعل استثارة، فكأن عدم ذكر الجدال في الحديث فسحة للمؤمن ولكن لا يصح أن نتمادى فيها. والجدال ممكن في غير الحج بدليل: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} من الآية [125 سورة النحل].
إنما الحج لا جدال فيه. والجدال هو أن يلف كل واحد من الطرفين على الآخر ليطوقه بالحجة. ثم انظر إلى تقدير الحق لظروف البشر وعواطف البشر والاعتراف بها والتقنين لأمر واقع معترف به، فالحج يخرج الإنسان من وطنه ومن مكان أهله، ومن ماله، ومما ألف واعتاد من حياة. وحين يخرج الإنسان هذا الخروج فقد تضيق أخلاق الناس؛ لأنهم جميعًا يعيشون عيشة غير طبيعية؛ فهناك من ينام في غرفة مشتركة مع ناس لا يعرفهم، وهناك أسرة تنام في شقة مشتركة ليس فيها إلا دورة مياه واحدة، ومن الجائز أن يرغب أحد في قضاء حاجته في وقت قضاء حاجة شخص آخر، وحين تكون هذه المسألة موجودة لا رأي لإنسان، ولذلك يقال: لا رأي لحاقن أي لا رأي لمحصور.. أي لمن يريد قضاء حاجته من بول، وكذلك الشأن في الحاقب وهو الذي يحتبس غائطه لأنها مسألة تخل توازن الإنسان.
إذن فالحياة في الحج غير طبيعية، وظروف الناس غير طبيعية، لذلك يحذرنا الحق من الدخول في جدل؛ لأنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سببًا في إساءة معاملة الآخرين، والحق يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علاقتنا بالآخرين. وقد أثبتت التجربة أن من يذهبون للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جدًا، وإما أعداء ألداء. ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج، وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند الله، وليشتغل بأنس الله، وليتحمل في جانبه كل شيء، ويكفي أنه في بيت الله وفي ضيافته.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}. فبعد أن نهانا الحق بقوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وتلك أمور سلبية وهي أفعال على الإنسان أن يمتنع عنها، وهنا يتبع الحق الأفعال السلبية بالأمر بالأفعال الإيجابية، أفعال الخير التي يعلمها الله. إن الله يريد أن نجمع في العبادة بين أمرين، سلب وإيجاب، سلب ما قال عن الرفث والفسوق والجدال، ويريد أن نوجب ونوجد فعلا. {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}. وما هو ذلك الخير؟ إنها الأمور المقابلة للمسائل المنهي عنها، فإذا كان الإنسان لا يرفث في الحج فمطلوب منه أن يعف في كلامه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علاقته بامرأته الحلال له، فيمتنع عنها مادام محرمًا ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق، من بر وخير وفي الجدال نجد أن مقابله هو الكلام بالرفق والأدب واللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف على الناس، هذا هو المقصود بقوله: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}. وكلمة من قوله: {من خير} للابتداء، كأن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيرًا وهو سبحانه يرى أقل شيء من الخير؛ ولذلك قال: {يعلمه الله}. فكأنه خير لا يراه أحد؛ فالخير الظاهر يراه كل الناس، والتعبير ب {يعلمه الله} أي الخير مهما صغر، ومهما قل فإن الله يعلمه، وكثير من الخيرات تكون هواجس بالنية، ويجازي الله على الخير بالجزاء الذي يناسبه.
وقول الحق: {وتزودوا} والزاد: هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره، وكان هذا أمرًا مألوفا عند العرب قديما؛ لأن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه طعام. وكل هذه الظروف تغيرت الآن، وكذلك تغير عادات الناس التي كانت تذهب إلى هناك. كانت الناس قديمًا تذهب إلى الحج ومعها أكفانها، ومعها ملح طعامها، ومعها الخيط والإبرة، فلم يكن في مكة والمدينة ما يكفي الناس، وأصبح الناس يذهبون الآن إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة، وأصبحت لا تجد غرابة في أن فلانا جاء من الحج ومعه كذا وكذا. كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذانا بأنه أخبر قديما يوم كان الوادي غير ذي زرع فقال: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} من الآية [57 سورة القصص].
وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله: يجبى ومعناها يؤخذ بالقوى وليس باختيار من يذهب به، فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها، وهو رزق من عند الله، وليس من يد الناس. وهذا تصديق لقوله تعالى: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} من الآية [37 سورة إبراهيم].
وقوله الحق: {وتزودوا} مأخوذة كما عرفنا من الزيادة، والزاد هو طعام المسافر، ومن يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته، ويأخذه حتى يكفيه مئونة السؤال أو الاستشراف إلى السؤال؛ لأن الحج ذلة عبودية، وذلة العبودية يريدها الله له وحده. فمن لا يكون عنده مئونة سفره فربما يذل لشخص آخر، ويطلب منه أن يعطيه طعاما، والله لا يريد من الحاج أن يذل لأحد، ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته حتى يكفي نفسه، وتظل ذلته سليمة لربه، فلا يسأل غير به، ولا يستشرق للسؤال من الخلق، ومن يسأل أو يستشرق فقد أخذ شيئا من ذلته المفروض أن تكون خالصة في هذه المرحلة لله وهو يوجهها للناس، والله يريدها له خالصة.
وإن لم يعط الناس السائل والمستشرق للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته، وتتحول رحلته من قصد البر إلى الشر. وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بلا زاد ويقولون: نحن متوكلون، أنذهب إلى بيت الله ولا يطعمنا؟. ثم تضطرهم الظروف لأن يسرقوا، وهذا سبب وجود النهب والسرقة في الحج. إن إلحاح الجوع قد يدفع الإنسان لأن ينهب ويسرق ليسد حاجته. ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال: {وتزودوا} إنه أمر من الله بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها الإنسان عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن معارفه، ويقول سبحانه: {فإن خير الزاد التقوى} ونعرف أن الزاد هو ما تقي به نفسك من الجوع والعطش، وإذا كان التزود فيه خير لاستبقاء حياتك الفانية، فما بالك بالحياة الأبدية التي لا فناء فيها، ألا تحتاج إلى زاد اكبر؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية.
إذن فقوله: {فإن خير الزاد التقوى} يشمل زاد الدنيا والآخرة. والله سبحانه وتعالى يذكرنا بالأمور المحسة وينقلنا منها إلى الأمور المعنوية، ولكن إذا نظرت بعمق وصدق وحق وجدت الأمور المعنوية أقوى من الأمور الحسية. ولذلك نلاحظ في قوله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} من الآية [26 سورة الأعراف].
هذا أمر حسي ويفيدنا ويزيدنا سبحانه {ريشًا} إنه سبحانه لا يواري سوءة فقط، وإنما زاد الأمر إلى الكماليات التي يتزين بها، وهذه الكماليات هي الريش، أي ما يتزين به الإنسان، ثم قال الحق: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} من الآية [26 سورة الأعراف].
أي أنعمت عليكم باللباس والريش، ولكن هناك ما هو خير منهما وهو {لباس التقوى}. فإن كنت تعتقد في اللباس الحسي أنه ستر عورتك ووقاك حرًا وبردًا وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر حسي، ولكن الأمر الأفضل هو لباس التقوى، لماذا؟ لأن مفضوح الآخرة شر من مفضوح الدنيا. إذن فقوله: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}. يعني أن الحق يريد منك أن تتزود للرحلة زادًا يمنعك عن السؤال والاستشراق أو النهب أو الغصب، وأحذر أن يدخل في شيء مما حرم الله، ولكن تزودك في دائرة: {واتقون يا أولي الألباب} أي يا أصحاب العقول، ولا ينبه الله الناس إلى ما فيهم من عقل إلا وهو يريد منهم أن يحكموا عقولهم في القضية، لأنه جل شأنه يريد منك أن تحكم عقلك، فإن حكمت عقلك في القضية فسيكون حكم العقل في صف أمر الله.
ولما كان الله سبحانه بسعة لطفه ورحمته يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة المباركة أن يتعاون الناس، أذن لجماعة من الحجاج أن تقوم على خدمة الآخرين تيسيرًا لهم. ومن العجيب أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يرخص الله لهم في الحج أن ينفروا قبل غيرهم؟ لأن تلك مصلحة ضرورية. فهب أن الناس جميعا امتنعوا عن خدمة بعضهم بعضا فمن الذي يقوم بمصالح الناس؟ إذن لابد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة الحجاج، والله سبحانه وتعالى بين ذلك ووضحه بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198)}. اهـ.